حكمة
وجود الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم:
إن
في وجود الملائكة والإيمان بهم حكماً متعددة منها:
أولاً:
أن يعلم الإنسان سعة علم الله تعالى وعظم قدرته وبديع حكمته، وذلك أنه سبحانه خلق
ملائكة كراماً لا يحصيهم الإنسان كثرة ولا يبلغهم قوة وأعطاهم قوة التشكل بأشكال
مختلفة حسبما تقتضيه مناسبات الحال.
ثانياً:
الإيمان بالملائكة عليهم السلام هو ابتلاء للإنسان بالإيمان بمخلوقات غيبية عنه،
وفي ذلك تسليم مطلق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ثالثاً:
أن يعلم الإنسان أن الله تعالى خلق ملائكة أنقياء أقوياء لكلٍ منهم له وظيفة بأمر
من الله تعالى إظهاراً لسلطان ربوبيته وعظمة ملكه، وأنه الملك المليك الذي تصدر عنه
الأوامر، من الوظائف التي أمروا بها: نفخ الروح في الأجنة ومراقبة أعمال البشر،
والمحافظة عليها وقبض الأرواح وغير ذلك... .
رابعاً:
أن يعلم الإنسان ما يجب عليه تجاه مواقف الملائكة معه وعلاقة وظائفهم المتعلقة به،
فيرعاها حق رعايتها ويعمل بمقتضاها وموجبها.
مثال
ذلك: أن الإنسان إذا علم أن عليه ملكاً رقيباً يراقبه وعتيداً حاضراً لا يتركه،
متلقياً عنه ما يصدر منه، فعليه أن يحسن الإلقاء والإملاء لهذا الملك المتلقي عنه
والمستملي عنه الذي يدون على الإنسان كتابه ويجمعه ثم يبسطه له يوم القيامة وينشره
ليقرأه قال الله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
خامساً:
وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكة كراماً وسطاء سفرة بينه وبين
أنبيائه ورسله عليهم السلام قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} [النحل: 2].
وفي
ذلك تنبيه إلى عظم النبوة والرسالة، ورفعة منزلة الشرائع الإلهية وشرف العلوم
الربانية الموحاة إلى الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإن شرائع الله تعالى مجيدة
كريمة، لأن الذي شرعها هو العليم الحكيم الذي أحكم للناس أحكامها ووضع لهم نظامها
على وجه يضمن مصالح العباد وسعادتهم وعزتهم الإنسانية وكرامتهم
الآدمية.
فالجدير
بالشرائع الإلهية وحكمة أحكامها وبديع انتظامها أن تتنزل بها أشراف الملائكة
وساداتها على أشراف الخليقة الإنسانية وساداتها ألا وهم الأنبياء عليهم
السلام.
1-
عصمة
الملائكة عليهم السلام من المعصية:
-إن
الملائكة عليهم السلام معصومون عن المعصية والذنوب، فقد عصمهم الله وحفظهم من
ذلك.
- فهم
لا يعصون الله ما أمرهم ويأتمرون بأوامر الله تعالى، وكل من كانت صفاته كذلك فلا
يقع في معصية أو ذنب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا
مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
-وهم
لا يتقدمون بقول إلا بعد أن يأذن الله تعالى لهم في ذلك ولا يتحركون لعمل إلا
بأمره. قال الله تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ
بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].
-وهم
في مقام الخشية والخوف من الله، ودأبهم فعل ما يؤمرون به من ربهم قال تعالى:
{وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ
وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ}
[النحل: 49 - 50].
فمن
كان مقامه الخوف من الله وعدم المخالفة لأوامره فهل يقع منه
معصية؟
-وهم
يسبحون الله ليلاً ونهاراً، ولا يتعبون ولا يملون من عبادة ربهم. قال الله تعالى:
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ(1)
عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ
* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (2)}
[الأنبياء: 19 - 20].
ومن
كان هذا دأبه، فأنى تتأتى منه المعصية؟
-وهم
المطيعون الصادقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز: {كرام
بررة(3)
} فمن كان باراً مطيعاً فهل يخالف؟
-فمن
ذلك الآيات يتبين أن الملائكة عليهم السلام محفوظون بحفظ الله عن المعصية
والذنوب.
ويجب
تنزيه مقامهم الرفيع عن كل ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل
مقدارهم.
تنبيه:
ليس في قصة هاروت وماروت في القرآن الكريم ما يخلُّ في عصمة الملائكة عليهم
السلام.
_________________
(1) لا
يكلون ولا يعيون.
(2) لا
يسكنون عن التسبيح والعبادة.
(3)وهم
المطيعون لربهم.
قال
الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ}[البقرة: 102].
والقصة:
أن اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحرة والشعوذة التي كانت تُقْرَأ في زمن
ملك سليمان عليه السلام. وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما
سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها ويعلمونها
الناس وفشا ذلك في زمان سليمان عليه السلام، حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب، وكانوا
يقولون هذا علم سليمان عليه السلام، وما تمَّ لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر
الجن والإنس والطير والريح، فأنزل الله هذين الملكين هاروت وماروت لتعليم الناس
السحر ابتلاءً من الله وللتمييز بين السحر والمعجزة وظهور الفرق بين كلام الأنبياء
عليهم السلام وبين كلام السحرة.
وما
يُعلِّم هاروت وماروت من أحدٍ حتى ينصحاه، ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن
تعلم منا السحر واعتقده وعمل به كفر، ومن تعلَّم وتوقَّى عمله ثبت على
الإيمان.
فيتعلم
الناس من هاروت وماروت علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، بأن يخلق
الله تعالى عند ذلك النفرة والخلاف بين الزوجين، ولكن لا يستطيعون أن يضروا بالسحر
أحداً إلا بإذن الله تعالى، لأن السحر من الأسباب التي لا تؤثر بنفسها بل بأمره
تعالى ومشيئته وخلقه.
فيتعلم
الناس الذي يضرهم ولا ينفعهم في الآخرة لأنهم سخروا هذا العلم لمضرة
الأشخاص.
ولقد
علم اليهود أن من استبدل الذي تتلوه الشياطين من كتاب الله ليس له نصيب من الجنة في
الآخرة، فبئس هذا العمل الذي فعلوه.
والخلاصة:
أن الله تعالى إنما أنزلهما ليحصل بسبب إرشادهما الفرق بين الحق الذي جاء به سليمان
وأتم له الله به ملكه، وبين الباطل الذي جاءت الكهنة به من السحر، ليفرق بين
المعجزة والسحر.
وإن
ورد غير ذلك في شأن هذه القصة فلا يبعد أن يكون من الروايات
الإسرائيلية.